فصل: باب حكم الماء إذا لاقته النجاسة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب حكم الماء إذا لاقته النجاسة

1- عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ ‏(‏قيل يا رسول اللَّه أتتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شيء‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ حديث بئر بضاعة صحيح‏.‏ وفي رواية لأحمد وأبي داود‏:‏ ‏(‏أنه يستقى لك من بئر بضاعة وهي بئر تطرح فيها محايض النساء ولحم الكلاب وعذر الناس فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إن الماء طهور لا ينجسه شيء‏)‏‏.‏ قال أبو داود‏:‏ سمعت قتيبة بن سعيد قال‏:‏ سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها قلت أكثر ما يكون فيها الماء قال‏:‏ إلى العانة قلت‏:‏ فإذا نقص قال‏:‏ دون العورة‏.‏ قال أبو داود‏:‏ قدرت بئر بضاعة بردائي فمددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه هل غير بناؤها عما كان عليه فقال‏:‏ لا ورأيت فيها ماء متغير اللون‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا الشافعي في الأم والنسائي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي‏.‏ وقد صححه أيضًا يحيى بن معين وابن حزم والحاكم وجوده أبو أسامة ونقل ابن الجوزي أن الدارقطني قال‏:‏ إنه ليس بثابت‏.‏

قال في التلخيص ولم نر ذلك في العلل له ولا في السنن وأعله ابن القطان بجهالة راويه عن أبي سعيد واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه قال ابن القطان‏:‏ وله طريق أحسن من هذه ثم ساقها عن أبي سعيد وقال ابن منده في حديث أبي سعيد هذا إسناده مشهور‏.‏ وفي الباب عن جابر عند ابن ماجه بلفظ‏:‏ ‏(‏إن الماء لا ينجسه شيء‏)‏ وفي إسناده أبو سفيان طريف بن شهاب وهو ضعيف متروك‏.‏ وعن ابن عباس عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان بنحوه‏.‏ وعن سهل بن سعد عند الدارقطني‏.‏ وعن عائشة عند الطبراني في الأوسط وأبي يعلى والبزار وابن السكن في صحاحهم ورواه أحمد من طريق أخرى صحيحة لكنه موقوف‏.‏ وأخرجه أيضًا بزيادة الاستثناء الدارقطني من حديث ثوبان ولفظه‏:‏ ‏(‏الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه‏)‏‏.‏ وفي إسناده رشدين ابن سعد وهو متروك‏.‏ وعن أبي أمامة مثله عند ابن ماجه والطبراني وفيه أيضًا رشدين ورواه البيهقي بلفظ‏:‏ ‏(‏إن الماء طهور إلا أن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه‏)‏ من طريق عطية بن بقية عن أبيه عن ثور عن راشد بن سعد عن أبي أمامة وفيه تعقب على من زعم أن رشدين بن سعد تفرد بوصله‏.‏ ورواه الطحاوي والدارقطني من طريق راشد بن سعد مرسلًا‏.‏ وصحح أبو حاتم إرساله‏.‏ وقال الشافعي لا يثبت أهل الحديث مثله وقال الدارقطني لا يثبت هذا الحديث‏.‏ وقال النووي‏:‏ اتفق المحدثون على تضعيفه قال في البدر المنير‏:‏ فتلخص أن الاستثناء المذكور ضعيف فتعين الاحتجاج بالإجماع كما قال الشافعي والبيهقي وغيرهما يعني الإجماع على أن المتغير بالنجاسة ريحًا أو لونًا أو طعمًا نجس‏.‏ وكذا نقل الإجماع ابن المنذر فقال‏:‏ أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعمًا أو لونًا أو ريحًا فهو نجس انتهى‏.‏ وكذا نقل الإجماع المهدي في البحر‏.‏

قوله‏:‏ ‏[‏أتتوضأ بتاءين مثناتين من فوق خطاب للنبي صلى اللَّه عليه وسلم كذا قال في التلخيص‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏النتن‏)‏ بنون مفتوحة وتاء مثناة من فوق ساكنة ثم نون قال ابن رسلان‏:‏ وينبغي أن يضبط بفتح النون وكسر التاء وهو الشيء الذي له رائحة كريهة من قوله‏:‏ نتن الشيء بكسر التاء ينتن بفتحها فهو نتن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بئر بضاعة‏)‏ أهل اللغة يضمون الباء ويكسرونها والمحفوظ في الحديث الضم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والحيض‏)‏ بكسر الحاء جمع حيضة بكسر الحاء أيضًا مثل سدر وسدرة والمراد بها خرقة الحيض التي تمسحه المرأة بها وقيل الحيضة الخرقة التي تستثفر المرأة بها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعذر الناس‏)‏ بفتح العين المهملة وكسر الذال المعجمة جمع عذرة ككلمة وكلم وهي الخرء وأصلها اسم لفناء الدار ثم سمي بها الخارج من باب تسمية المظروف باسم الظرف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى العانة‏)‏ قال الأزهري وجماعة‏:‏ هي موضع منبت الشعر فوق قبل الرجل والمرأة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دون العورة‏)‏ قال ابن رسلان‏:‏ يشبه أن يكون المراد به عورة الرجل أي دون الركبة لقوله‏:‏ صلى اللَّه عليه وسلم ‏(‏عورة الرجل ما بين سرته وركبته‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ماء متغير اللون‏)‏ قال النووي‏:‏ يعني بطول المكث وأصل المنبع لا بوقوع شيء أجنبي فيه‏.‏ والحديث يدل على أن الماء لا يتنجس بوقوع شيء فيه سواء كان قليلًا أو كثيرًا ولو تغيرت أوصافه أو بعضها لكنه قام الإجماع على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة خرج عن الطهورية فكان الاحتجاج به لا بتلك الزيادة كما سلف فلا ينجس الماء بما لاقاه ولو كان قليلًا إلا إذا تغير‏.‏ وقد ذهب إلى ذلك ابن عباس وأبو هريرة والحسن البصري وابن المسيب وعكرمة وابن أبي ليلى والثوري وداود الظاهري والنخعي وجابر بن زيد ومالك والغزالي‏.‏ ومن أهل البيت القاسم والإمام يحيى وذهب ابن عمر ومجاهد والشافعية والحنفية وأحمد بن حنبل وإسحاق‏.‏ ومن أهل البيت الهادي والمؤيد باللَّه وأبو طالب والناصر إلى أنه ينجس القليل بما لاقاه من النجاسة وإن لم تتغير أوصافه إذ تستعمل النجاسة باستعماله‏.‏ وقد قال تعالى ‏{‏والرجز فاهجر‏}‏ ولخبر الاستيقاظ وخبر الولوغ ولحديث ‏(‏لا يبولن أحدكم في الماء الدائم‏)‏ وحديث القلتين ولترجيح الحظر‏.‏ ولحديث ‏(‏استفت قلبك وإن أفتاك المفتون‏)‏ عند أحمد وأبي يعلى والطبراني وأبي نعيم مرفوعًا‏.‏ وحديث ‏(‏دع ما يريبك إلى ما لا يريبك‏)‏ أخرجه النسائي وأحمد وصححه ابن حبان والحاكم والترمذي من حديث الحسن بن علي‏.‏

قالوا‏:‏ فحديث ‏(‏الماء طهور لا ينجسه شيء‏)‏ مخصص بهذه الأدلة واختلفوا في حد القليل الذي يجب اجتنابه عند وقوع النجاسة فيه فقيل ما ظن استعمالها باستعماله وإليه ذهب أبو حنيفة والمؤيد باللَّه وأبو طالب وقيل دون القلتين على اختلاف في قدرهما وإليه ذهب الشافعي وأصحابه والناصر والمنصور باللَّه وأجاب القائلون بأن القليل لا ينجس بالملاقاة للنجاسة إلا أن يتغير باستلزام الأحاديث الواردة في اعتبار الظن للدور لأنه لا يعرف القليل إلا بظن الاستعمال ولا يظن إلا إذا كان قليلًا وأيضًا الظن لا ينضبط بل يختلف باختلاف الأشخاص وأيضًا جعل ظن الاستعمال مناطًا يستلزم استواء القليل والكثير‏.‏ وعن حديث القلتين بأنه مضطرب الإسناد والمتن كما سيأتي‏.‏

والحاصل أنه لا معارضة بين حديث القلتين وحديث الماء طهور لا ينجسه شيء فما بلغ مقدار القلتين فصاعدًا فلا يحمل الخبث ولا ينجس بملاقاة النجاسة إلا أن يتغير أحد أوصافه فنجس بالإجماع فيخص به حديث القلتين وحديث لا ينجسه شيء‏.‏ وأما ما دون القلتين فإن تغير خرج عن الطهارة بالإجماع وبمفهوم حديث القلتين فيخص بذلك عموم حديث لا ينجسه شيء وإن لم يتغير بأن وقعت فيه نجاسة لم تغيره فحديث لا ينجسه شيء يدل بعمومه على عدم خروجه عن الطهارة لمجرد ملاقاة النجاسة وحديث القلتين يدل بمفهومه على خروجه عن الطهورية بملاقاتها فمن أجاز التخصيص بمثل هذا المفهوم قال به في هذا المقام ومن منع منه منعه فيه‏.‏ ويؤيد جواز التخصيص بهذا المفهوم لذلك العموم بقية الأدلة التي استدل بها القائلون بأن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم تغيره كما تقدم وهذا المقام من المضايق التي لا يهتدي إلى ما هو الصواب فيها إلا الأفراد‏.‏ وقد حققت المقام بما هو أطول من هذا وأوضح في طيب النشر على المسائل العشر‏.‏ وللناس في تقدير القليل والكثير أقوال ليس عليها أثارة من علم فلم نشتغل بذكرها‏.‏

2- وعن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو يسئل عن الماء يكون بالفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب فقال إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث‏)‏‏.‏

رواه الخمسة‏.‏ وفي لفظ ابن ماجه ورواية لأحمد ‏(‏لم ينجسه شيء‏)‏‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا الشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي وقال الحاكم‏:‏ صحيح على شرطهما‏.‏ وقد احتجا بجميع رواته واللفظ الآخر من حديث الباب أخرجه أيضًا الحاكم وأخرجه أبو داود بلفظ‏:‏ ‏(‏لا ينجس‏)‏ وكذا أخرجه ابن حبان وقال ابن منده‏:‏ إسناد حديث القلتين على شرط مسلم انتهى‏.‏

ومداره على الوليد بن كثير فقيل عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير وقيل عنه عن محمد بن عباد بن جعفر وقيل عنه عن عبيد اللَّه بن عمر وقيل عنه عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر‏.‏ وهذا اضطراب في الإسناد وقد روي أيضًا بلفظ‏:‏ ‏(‏إذا كان الماء قدر قلتين أو ثلاث لم ينجس‏)‏ كما في رواية لأحمد والدارقطني وبلفظ‏:‏ ‏(‏إذا بلغ الماء قلة فإنه لا يحمل الخبث‏)‏ كما في رواية للدارقطني وابن عدي والعقيلي وبلفظ ‏(‏أربعين قلة‏)‏ عند الدارقطني وهذا اضطراب في المتن وقد أجيب عن دعوى الاضطراب في الإسناد بأنه على تقدير أن يكون محفوظًا من جميع تلك الطرق لا يعد اضطرابًا لأنه انتقال من ثقة إلى ثقة قال الحافظ‏:‏ وعند التحقيق إنه عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد اللَّه بن عمر المكبر وعن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر المصغر‏.‏ ومن رواه على غير هذا الوجه فقد وهم‏.‏ وله طريق ثالثة عند الحاكم جود إسنادها ابن معين‏.‏

وعن دعوى الاضطراب في المتن بأن رواية أو ثلاث شاذة ورواية أربعين قلة مضطربة وقيل أنهما موضوعتان ذكر معناه في البدر المنير‏.‏ ورواية أربعين ضعفها الدارقطني بالقاسم بن عبد اللَّه العمري قال ابن عبد البر في التمهيد‏:‏ ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت من جهة الأثر لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع‏.‏ وقال في الاستذكار‏:‏ حديث معلول رده إسماعيل القاضي وتكلم فيه وقال الطحاوي‏:‏ إنما لم نقل به لأن مقدار القلتين لم يثبت‏.‏ وقال ابن دقيق العيد‏:‏ هذا الحديث قد صححه بعضهم وهو صحيح على طريقة الفقهاء ثم أجاب عن الاضطراب‏.‏

وأما التقييد بقلال هجر فلم يثبت مرفوعًا إلا من رواية المغيرة بن صقلاب عند ابن عدي وهو منكر الحديث قال النفيلي‏:‏ لم يكن مؤتمنًا على الحديث وقال ابن عدي‏:‏ لا يتابع على عامة حديثه ولكن أصحاب الشافعي قووا كون المراد قلال هجر بكثرة استعمال العرب لها في أشعارهم كما قال أبو عبيد في كتاب الطهور‏.‏ وكذلك ورد التقيد بها في الحديث الصحيح قال البيهقي‏:‏ قلال هجر كانت مشهورة عندهم ولهذا شبه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ما رأى ليلة المعراج من نبق سدرة المنتهى بقلال هجر‏.‏ قال الخطابي‏:‏ قلال هجر مشهورة الصنعة معلومة المقدار‏.‏ والقلة لفظ مشترك وبعد صرفها إلى أحد معلوماتها وهي الأواني تبقى مترددة بين الكبار والصغار والدليل على أنها من الكبار جعل الشارع الحد مقدرًا بعدد فدل على أنه أشار إلى أكبرها لأنه لا فائدة في تقديره بقلتين صغيرتين مع القدرة على التقدير بواحدة كبيرة ولا يخفى ما في هذا الكلام من التكلف والتعسف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما ينوبه‏)‏ هو بالنون أي يرد عليه نوبة بعد أخرى‏.‏ وحكى الدارقطني أن ابن المبارك صحفه فقال يثوبه بالثاء المثلثة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يحمل الخبث‏)‏ هو بفتحتين النجس كما وقع تفسير ذلك بالنجس في الروايات المتقدمة والتقدير لم يقبل النجاسة بل يدفعها عن نفسه ولو كان المعنى أنه يضعف عن حملها ‏[‏بين النووي في شرح المهذب معنى الحمل وأنه على ضربين قال‏:‏ إن الحمل ضربان حمل جسم وحمل معنى فإذا قيل في حمل الجسم فلان لا يحمل الخشبة مثلًا فمعناه لا يطيق ذلك لثقله‏.‏ وإذا قيل في حمل المعنى فلان لا يحمل الضيم فمعناه لا يقبله ولا يلتزمه ولا يصبر عليه قال تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها‏}‏ معناه لم يقبلوا أحكامها ولم يلتزموها‏.‏ والماء من هذا الضرب لا يتشكك في هذا من له أدنى فهم ومعرفة‏.‏ واللَّه أعلم‏]‏‏.‏ لم يكن للتقييد بالقلتين معنى فإن ما دونهما أولى بذلك وقيل معناه لا يقبل حكم النجاسة‏.‏ وللخبث معان أخرى ذكرها في النهاية والمراد ههنا ما ذكرنا‏.‏

والحديث يدل على أن قدر القلتين لا ينجس بملاقاة النجاسة وكذا ما هو أكثر من ذلك بالأولى ولكنه مخصص أو مقيد بحديث إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه وهو وإن كان ضعيفًا فقد وقع الإجماع على معناه وقد تقدم تحقيق الكلام والجمع بين الأحاديث‏.‏

3- وعن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه‏)‏‏.‏

رواه الجماعة وهذا لفظ البخاري ولفظ الترمذي ‏(‏ثم يتوضأ منه‏)‏ ولفظ الباقين ‏(‏ثم يغتسل منه‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الدائم‏)‏ تقدم تفسيره‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏الذي لا يجري‏)‏ قيل هو تفسير للدائم وإيضاح لمعناه وقد احترز به عن راكد يجري بعضه كالبرك‏.‏ وقيل احترز به عن الماء الراكد لأنه جار من حيث الصورة ساكن من حيث المعنى ولهذا لم يذكر البخاري هذا القيد حيث جاء بلفظ الراكد بدل الدائم‏.‏ وكذلك مسلم في حديث جابر وقال ابن الأنباري‏:‏ الدائم من حروف الأضداد يقال للساكن والدائر‏.‏ وعلى هذا يكون قوله‏:‏ لا يجري صفة مخصصة لا حد معنى المشترك‏.‏ وقيل الدائم والراكد مقابلان للجاري لكن الدائم الذي له نبع والراكد الذي لا نبع له‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم يغتسل فيه‏)‏ ضبطه النووي في شرح مسلم بضم اللام قال في الفتح‏:‏ وهو المشهور قال النووي أيضًا‏:‏ وذكر شيخنا أبو عبد اللَّه ابن مالك أنه يجوز أيضًا جزمه عطفًا على موضع يبولن ثم نصبه بإضمار أن وإعطاء ثم حكم واو الجمع فأما الجزم فلا مخالفة بينه وبين الأحاديث الدالة على أنه يحرم البول في الماء الدائم على انفراده والغسل على انفراده كما تقدم في باب بيان زوال تطهيره لدلالته على تساوي الأمرين في النهي عنهما‏.‏ وأما النصب فقال النووي‏:‏ لا يجوز لأنه يقتضي أن المنهي عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما وهذا لم يقله أحد بل البول فيه منهي عنه سواء أراد الاغتسال فيه أم لا وضعفه ابن دقيق العيد بأنه لا يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة لفظ واحد فيؤخذ النهي عن الجمع بينهما من هذا الحديث إن ثبتت رواية النصب ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر وتعقبه ابن هشام في المغني فقال إنه وهم وإنما أراد ابن مالك إعطاءها حكمها في النصب لا في المعية‏.‏ قال‏:‏ وأيضًا ما أورده إنما جاء من قبيل المفهوم لا المنطوق وقد قام دليل آخر على عدم إرادته ونظيره إجازة الزجاج والزمخشري في قوله‏:‏ تعالى ‏{‏ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق‏}‏ كون تكتموا مجزومًا وكونه منصوبًا مع أن النصب معناه النهي اهـ‏.‏ وقد اعترض الجزم القرطبي بما حاصله أنه لو أراد النهي عنه لقال ثم يغتسلن بالتأكيد وتعقب بأنه لا يلزم من تأكيد النهي أن لا يعطف عليه نهي آخر غير مؤكد لاحتمال أن يكون للتأكيد معنى في أحدهما ليس في الآخر اهـ‏.‏

والحاصل أنه قد ورد النهي عن مجرد الغسل من دون ذكر للبول كحديث أبي هريرة المتقدم في باب بيان زوال تطهير الماء وورد النهي عن مجرد البول من دون ذكر للغسل كما في صحيح مسلم أنه صلى اللَّه عليه وسلم نهى عن البول في الماء الراكد والنهي عن كل واحد منهما على انفراده يستلزم النهي عن فعلهما جميعًا بالأولى‏.‏

وقد ورد النهي عن الجمع بينهما في حديث الباب إن صحت رواية النصب والنهي عن كل واحد منهما في حديث عند أبي داود ويدل عليه حديث الباب على رواية الجزم وأما على رواية الرفع فقال القرطبي‏:‏ إنه نبه بذلك على مآل الحال ومثله بقوله‏:‏ صلى اللَّه عليه وسلم ‏(‏لا يضربن أحدكم امرأته ضرب الأمة ثم يضاجعها‏)‏ أي ثم هو يضاجعها والمراد النهي عن الضرب لأن الزوج يحتاج في مآل حاله إلى مضاجعتها فتمتنع لإساءته إليها فيكون المراد ههنا النهي عن البول في الماء لأن البائل يحتاج في مآل حاله إلى التطهر به فيمتنع ذلك للنجاسة‏.‏ قال النووي‏:‏ وهذا النهي في بعض المياه للتحريم وفي بعضها للكراهة فإن كان الماء كثيرًا جاريًا لم يحرم البول فيه ولكن الأولى اجتنابه وإن كان قليلًا جاريًا فقد قال جماعة من أصحاب الشافعي يكره والمختار أنه يحرم لأنه يقذره وينجسه ولأن النهي يقتضي التحريم عند المحققين والأكثرين من أهل الأصول وهكذا إذا كان كثيرًا راكدًا أو قليلًا لذلك قال‏:‏ وقال العلماء من أصحابنا وغيرهم يكره الاغتسال في الماء الراكد قليلًا كان أو كثيرًا وكذا يكره الاغتسال في العين الجارية قال‏:‏ وهذا كله على كراهة التنزيه لا التحريم انتهى‏.‏

وينظر ما القرينة الصارفة للنهي عن التحريم ولا فرق في تحريم البول في الماء بين أن يقع البول فيه أو في إناء ثم يصب إليه خلافًا للظاهرية والتغوط كالبول وأقبح ولم يخالف في ذلك أحد إلا ما حكى عن داود الظاهري‏.‏ قال النووي‏:‏ وهو خلاف الإجماع وهو أقبح ما نقل عنه في الجمود على الظاهر‏.‏ وقد نصر قول داود ابن حزم في المحلى وأورد للفقهاء الأربعة من هذا الجنس الذي أنكره أتباعهم على داود شيئًا واسعًا‏.‏ واعلم أنه لا بد من إخراج هذا الحديث عن ظاهره بالتخصيص أو التقييد لأن الاتفاق واقع على أن الماء المستبحر الكثير جدًا لا تؤثر فيه النجاسة وحملته الشافعية على ما دون القلتين لأنهم يقولون إن قدر القلتين فما فوقهما لا ينجس إلا بالتغير‏.‏ وقيل حديث القلتين عام في الأنجاس فيخص ببول الآدمي ورد بأن المعنى المقتضي للنهي هو عدم التقرب إلى اللَّه بالمتنجس وهذا المعنى يستوي فيه سائر النجاسات ولا يتجه تخصيص بول الآدمي منها بالنسبة إلى هذا المعنى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم يتوضأ منه‏)‏ فيه دليل على أن النهي لا يختص بالغسل بل الوضوء في معناه ولو لم يرد هذا لكان معلومًا لاستواء الوضوء والغسل في المعنى المقتضي للنهي كما تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم يغتسل منه‏)‏ هذا اللفظ ثابت أيضًا في البخاري من طريق أبي الزناد وللبخاري ومسلم من طريق أخرى ‏(‏ثم يغتسل فيه‏)‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ وكل واحد من اللفظين يفيد حكمًا بالنص وحكمًا بالاستنباط انتهى وذلك لأن الرواية بلفظ فيه تدل على منع الانغماس بالنص وعلى منع التناول بالاستنباط والرواية بلفظ منه بعكس ذلك‏.‏ وقد استدل بهذا الحديث أيضًا على نجاسة المستعمل وعلى أنه طاهر مسلوب الطهورية وقد تقدم الكلام على البحثين‏.‏ قال المصنف رحمه اللَّه تعالى‏:‏ ومن ذهب إلى خبر القلتين حمل هذا الخبر على ما دونهما وخبر بئر بضاعة على ما بلغهما جمعًا بين الكل انتهى وقد تقدم تحقيق ذلك‏.‏

 ‏(‏باب أسآر البهائم‏)‏ ‏[‏الأسآر جمع سؤر مهموز وهو ما بقي في الإناء بعد شرب الحيوان أو أكله‏.‏ قال النووي في شرح المهذب‏:‏ ومراد الفقهاء بقوله‏:‏ سؤر الحيوان طاهر أو نجس لعابه ورطوبة فمه‏]‏‏.‏

حديث ابن عمر في القلتين يدل على نجاستهما وإلا يكون التحديد بالقلتين في جواب السؤال عن ورودها عن الماء عبثًا‏:‏

1- عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ‏(‏إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات‏)‏‏.‏

رواه مسلم والنسائي‏.‏

الحديث له ألفاظ هذا أحدها‏.‏ وفي الباب أحاديث منها عن عبد اللَّه بن مغفل وسيأتي في باب اعتبار العدد في الولوغ‏.‏ وحديث ابن عمر الذي أشار إليه المصنف في القلتين تقدم‏.‏ وقد استدل به على نجاسة أسآر البهائم لما ذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا ولغ‏)‏ قال في الفتح‏:‏ يقال ولغ يلغ بالفتح فيهما إذا شرب بطرف لسانه فيه فحركه قال ثعلب‏:‏ هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيحركه زاد ابن درستويه شرب أو لم يشرب قال مكي‏:‏ فإن كان غير مائع يقال لعقه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في إناء أحدكم‏)‏ ظاهره العموم في الآنية وهو يخرج ما كان من المياه في غير الآنية وقيل أصل الغسل معقول المعنى وهو النجاسة فلا فرق بين الإناء وغيره‏.‏ وقال العراقي‏:‏ ذكر الإناء خرج مخرج الأغلب لا للتقييد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليرقه‏)‏ قال النسائي‏:‏ لم يذكر فليرقه غير علي بن مسهر‏.‏ وقال ابن منده‏:‏ تفرد بذكر الإراقة فيه علي بن مسهر ولا يعرف عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم بوجه من الوجوه‏.‏ قال الحافظ‏:‏ ورد الأمر بالإراقة عند مسلم من طريق الأعمش عن أبي صالح في صحيحه ورواه مسلم بزيادة‏:‏ ‏(‏أولاهن بالتراب‏)‏ كما سيأتي‏.‏ والحديث يدل على وجوب الغسلات السبع من ولوغ الكلب وإليه ذهب ابن عباس وعروة بن الزبير ومحمد بن سيرين وطاوس وعمرو بن دينار والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود‏.‏

وذهبت العترة والحنفية إلى عدم الفرق بين لعاب الكلب وغيره من النجاسات وحملوا حديث السبع على الندب واحتجوا بما رواه الطحاوي والدارقطني موقوفًا على أبي هريرة أنه يغسل من ولوغه ثلاث مرات وهو الراوي للغسل سبعًا فثبت بذلك نسخ السبع وهو مناسب لأصل بعض الحنفية من وجوب العمل بتأويل الراوي وتخصيصه ونسخه وغير مناسب لأصول الجمهور من عدم العمل به‏.‏ ويحتمل أن أبا هريرة أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبع لا وجوبها أو أنه نسي ما رواه‏.‏ وأيضًا قد ثبت عنه أنه أفتى بالغسل سبعًا ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد ومن حيث النظر أما من حيث الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سرين عنه وهذا من أصح الأسانيد والمخالفة من رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه وهو دون الأول في القوة بكثير قاله الحافظ في الفتح‏.‏ وأما من حيث النظر فظاهر‏.‏ وأيضًا قد روى التسبيع غير أبي هريرة فلا يكون مخالفة فتياه قادحة في مروي غيره وعلى كل حال فلا حجة في قول أحد مع قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏.‏

ومن جملة أعذراهم عن العمل بالحديث أن العذرة أشد نجاسة من سؤر الكلب ولم تقيد بالسبع فيكون الولوغ كذلك من باب الأولى ورد بأنه لا يلزم من كونها أشد في الاستقذار أن لا يكون الولوغ أشد منها في تغليظ الحكم وبأنه قياس في مقابلة النص الصريح وهو فاسد الاعتبار‏.‏ ومنها أيضًا أن الأمر بذلك كان عند الأمر بقتل الكلاب فلما نهى عن قتلها نسخ الأمر بالغسل وتعقب بأن الأمر بقتلها كان في أوائل الهجرة والأمر بالغسل متأخر جدًا لأنه من رواية أبي هريرة وعبد اللَّه بن مغفل وكان إسلامهما سنة سبع وسياق حديث ابن مغفل الآتي ظاهر في أن الأمر بالغسل كان بعد الأمر بقتل الكلاب‏.‏ وقد اختلف أيضًا في وجوب التتريب للإناء الذي ولغ فيه الكلب وسيأتي بيان ذلك في باب اعتبار العدد‏.‏

واستدل بهذا الحديث أيضًا على نجاسة الكلب لأنه إذا كان لعابه نجسًا وهو عرق فمه ففمه نجس ويستلزم نجاسة سائر بدنه وذلك لأن لعابه جزء من فمه وفمه أشرف ما فيه فبقية بدنه أولى وقد ذهب إلى هذا الجمهور‏.‏ وقال عكرمة ومالك في رواية عنه أنه طاهر‏.‏ ودليلهم قول اللَّه تعالى ‏{‏فكلوا مما أمسكن عليكم‏}‏ ولا يخلو الصيد من التلوث بريق الكلاب ولم نؤمر بالغسل وأجيب عن ذلك بأن إباحة الأكل مما أمسكن لا تنافي وجوب تطهير ما تنجس من الصيد وعدم الأمر للاكتفاء بما في أدلة تطهير النجس من العموم ولو سلم فغايته الترخيص أو في الصيد بخصوصه‏.‏ واستدلوا أيضًا بما ثبت عن أبي داود من حديث ابن عمر بلفظ‏:‏ ‏(‏كانت الكلاب تقبل وتدبر في زمان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك‏)‏ وهو في البخاري‏.‏ وأخرجه الترمذي بزيادة وتبول ورد بأن البول مجمع على نجاسته فلا يصلح حديث بول الكلاب في المسجد حجة يعارض بها الإجماع‏.‏ وأما مجرد الإقبال والإدبار فلا يدلان على الطهارة وأيضًا يحتمل أن يكون ترك الغسل لعدم تعيين موضع النجاسة أو لطهارة الأرض بالجفاف‏.‏ قال المنذري‏:‏ إنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها ثم تقبل وتدبر في المسجد‏.‏ قال الحافظ‏:‏ والأقرب أن يقال أن ذلك كان في ابتداء الحال على أصل الإباحة ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها وجعل الأبواب عليها‏.‏

واستدلوا على الطهارة أيضًا بما سيأتي من الترخيص في كلب الصيد والماشية والزرع وأجيب بأنه لا منافاة بين الترخيص وبين الحكم بالنجاسة غاية الأمر أنه تكليف شاق وهو لا ينافي التعبد به‏.‏